فصل: باب الصلاة في السفينة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار **


 باب الصلاة في السفينة

1 - عن ميمون بن مهران عن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏سئل النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم كيف أصلي في السفينة قال‏:‏ صلِ فيها قائمًا إلا أن تخاف الغرق‏)‏‏.‏

رواه الدارقطني وأبو عبد اللَّه الحاكم على شرط الصحيحين‏.‏

2 - وعن عبد اللَّه بن أبي عتبة قال‏:‏ ‏(‏صحبت جابر بن عبد اللَّه وأبا سعيد الخدري وأبا هريرة في سفينة فصلوا قيامًا في جماعة أمهم بعضهم وهم يقدرون على الجد‏)‏‏.‏

رواه سعيد في سننه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏صلِ فيها قائمًا إلا أن تخاف الغرق‏)‏ فيه أن الواجب على من يصلي في السفينة القيام ولا يجوز له القعود إلا عند خشية الغرق‏.‏ ويؤيد ذلك الأحاديث المتقدمة الدالة على وجوب القيام في مطلق صلاة الفريضة فلا يصار إلى جواز القعود في السفينة ولا غيرها إلا بدليل خاص وقد قدمنا ما يدل على الترخيص في صلاة الفريضة على الراحلة عند العذر والرخص لا يقاس عليها وليس راكب السفينة كراكب الدابة لتمكنه من الاستقبال‏.‏ ويقاس على مخافة الغرق المذكورة في الحديث ما ساواها من الأعذار‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وهم يقدرون على الجد‏)‏ بضم الجيم وتشديد الدال هو شاطئ البحر‏.‏ والمراد أنهم يقدرون على الصلاة في البر وقد صحت صلاتهم في السفينة مع اضطرابها‏.‏ وفيه جواز الصلاة في السفينة وإن كان الخروج إلى البر ممكنًا‏.‏

 أبواب صلاة المسافر

 باب اختيار القصر وجواز الإتمام

1 - عن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏صحبت النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وكان لا يزيد في السفر على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

2 - وعن يعلى بن أمية قال‏:‏ ‏(‏قلت لعمر بن الخطاب‏:‏ ‏{‏فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا‏}‏ فقد أمن الناس قال‏:‏ عجبت مما عجبت منه فسألت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم عن ذلك فقال‏:‏ صدقة تصدق اللَّه بها عليكم فاقبلوا صدقته‏)‏‏.‏

رواه الجماعة إلا البخاري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وكان لا يزيد في السفر على ركعتين‏)‏ فيه أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم لازم القصر في السفر ولم يصل فيه تمامًا‏.‏ ولفظ الحديث في صحيح مسلم‏:‏ ‏(‏صحبت النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم فلم يزد على ركعتين حتى قبضه اللَّه عز وجل وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه اللَّه عز وجل وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه اللَّه عز وجل وصحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه اللَّه عز وجل‏)‏ وظاهر هذه الرواية وكذا الرواية التي ذكرها المصنف أن عثمان لم يصل في السفر تمامًا‏.‏ وفي رواية لمسلم عن ابن عمر أنه قال‏:‏ ‏(‏ومع عثمان صدرًا من خلافته ثم أتم‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏ثمان سنين أو ست سنين‏)‏ قال النووي‏:‏ وهذا هو المشهور أن عثمان أتم بعد ست سنين من خلافته وتأول العلماء هذه الرواية أن عثمان لم يزد على ركعتين حتى قبضه اللَّه في غير منى والرواية المشهورة بإتمام عثمان بعد صدر من خلافته محمولة على الإتمام بمنى خاصة‏.‏

وقد صرح في رواية بأن إتمام عثمان كان بمنى‏.‏ وفي البخاري ومسلم ‏(‏أن عبد الرحمن بن يزيد قال‏:‏ ‏(‏صلى بنا عثمان بمنى أربع ركعات فقيل في ذلك لعبد اللَّه بن مسعود فاسترجع ثم قال‏:‏ صليت مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر الصديق بمنى ركعتين وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعتان متقبلتان‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عجبت مما عجبت منه‏)‏ وفي رواية لمسلم ‏(‏عجبت ما عجبت منه‏)‏ والرواية الأولى هي المشهورة المعروفة كما قال النووي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏صدقة تصدق اللَّه بها عليكم‏)‏ فيه جواز قول القائل تصدق اللَّه علينا واللَّهم تصدق علينا وقد كرهه بعض السلف‏.‏ قال النووي‏:‏ وهو غلط ظاهر‏.‏

ـ واعلم ـ أنه قد اختلف أهل العلم هل القصر واجب أو رخصة والتمام أفضل فذهب إلى الأول الحنفية والهادوية‏.‏ وروي عن علي وعمر ونسبه النووي إلى كثير من أهل العلم‏.‏ قال الخطابي في المعالم‏:‏ كان مذاهب أكثر علماء السلف وفقهاء الأمصار على أن القصر هو الواجب في السفر وهو قول علي وعمر وابن عمر وابن عباس وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز وقتادة والحسن وقال حماد بن سليمان‏:‏ يعيد من يصلي في السفر أربعًا وقال مالك‏:‏ يعيد ما دام في الوقت اهـ‏.‏

وإلى الثاني الشافعي ومالك وأحمد‏.‏ قال النووي‏:‏ وأكثر العلماء وروي عن عائشة وعثمان وابن عباس‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وقد أجمعوا على أنه لا يقصر في الصبح ولا في المغرب‏.‏ قال النووي‏:‏ ذهب الجمهور إلى أنه يجوز القصر في كل سفر مباح وذهب بعض السلف إلى أنه يشترط في القصر الخوف في السفر وبعضهم كونه سفر حج أو عمرة‏.‏ وعن بعضهم كونه سفر طاعة‏.‏

ـ احتج القائلون ـ بوجوب القصر بحجج‏:‏

الأولى‏:‏ ملازمته صلى اللَّه عليه وسلم للقصر في جميع أسفاره كما في حديث ابن عمر المذكور في الباب ولم يثبت عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه أتم الرباعية في السفر البتة كما قال ابن القيم وأما حديث عائشة الآتي المشتمل على أنه صلى اللَّه عليه وسلم أتم الصلاة في السفر فسيأتي أنه لم يصح ويجاب عن هذه الحجة بأن مجرد الملازمة لا يدل على الوجوب كما ذهب إلى ذلك جمهور أئمة الأصول وغيرهم‏.‏

الحجة الثانية‏:‏ حديث عائشة المتفق عليه بألفاظ منها فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر وهو دليل ناهض على الوجوب لأن صلاة السفر إذا كانت مفروضة ركعتين لم تجز الزيادة عليها كما أنها لا تجوز الزيادة على أربع في الحضر وقد أجيب عن هذه الحجة بأجوبة‏:‏

منها‏:‏ أن الحديث من قول عائشة غير مرفوع وأنها لم تشهد زمان فرض الصلاة وأنه لو كان ثابتًا لنقل تواترًا وقد قدمنا الجواب عن هذه الأجوبة في أول كتاب الصلاة في الموضع الذي ذكر فيه المصنف حديث عائشة‏.‏

ومنها‏:‏ أن المراد بقولها فرضت أي قدرت وهو خلاف الظاهر‏.‏

ومنها‏:‏ ما قال النووي أن المراد بقولها فرضت يعني لمن أراد الاقتصار عليهما فزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتم وأقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار وهو تأويل متعسف لا يعول على مثله‏.‏

ومنها‏:‏ المعارضة لحديث عائشة بأدلتهم التي تمسكوا بها في عدم وجوب القصر وسيأتي ويأتي الجواب عنها‏.‏

الحجة الثالثة‏:‏ ما في صحيح مسلم عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ‏(‏إن اللَّه عز وجل فرض الصلاة على لسان نبيكم على المسافر ركعتين وعلى المقيم أربعًا والخوف ركعة‏)‏ فهذا الصحابي الجليل قد حكى عن اللَّه عز وجل أنه فرض صلاة السفر ركعتين وهو أتقى للَّه وأخشى من أن يحكي أن اللَّه فرض ذلك بلا برهان‏.‏

والحجة الرابعة‏:‏ حديث عمر عند النسائي وغيره‏:‏ ‏(‏صلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفجر ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة المسافر ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى اللَّه عليه وسلم‏)‏ وسيأتي وهو يدل على أن صلاة السفر مفروضة كذلك من أول الأمر وأنها لم تكن أربعًا ثم قصرت‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏على لسان محمد‏)‏ تصريح بثبوت ذلك من قوله صلى اللَّه عليه وسلم‏.‏

الحجة الخامسة‏:‏ حديث ابن عمر الآتي بلفظ‏:‏ ‏(‏أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر‏)‏‏.‏

ـ واحتج القائلون ـ بأن القصر رخصة والتمام أفضل بحجج‏:‏

الأولى منها‏:‏ قول اللَّه تعالى ‏{‏ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏ ونفي الجناح لا يدل على العزيمة بل على الرخصة وعلى أن الأصل التمام والقصر إنما يكون من شيء أطول منه‏.‏ وأجيب بأن الآية وردت في قصر الصفة في صلاة الخوف لا في قصر العدد لما علم من تقدم شرعية قصر العدد‏.‏ قال في الهدى وما أحسن ما قال‏:‏ وقد يقال إن الآية اقتضت قصرًا يتناول قصر الأركان بالتخفيف وقصر العدد بنقصان ركعتين وقيد ذلك بأمرين‏:‏ الضرب في الأرض والخوف‏.‏ فإذا وجد الأمران أبيح القصران فيصلون صلاة خوف مقصورًا عددها وأركانها وإن انتفى الأمران وكانوا آمنين مقيمان انتفى القصران فيصلون صلاة تامة كاملة وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده فإن وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفى العدد وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق في الآية وإن وجد السفر والأمن قصر العدد واستوفيت الأركان وصليت صلاة أمن وهذا أيضًا نوع قصر وليس بالقصر المطلق وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد وقد تسمى تامة باعتبار تمام أركانها وإن لم تدخل في الآية اهـ‏.‏

الحجة الثانية‏:‏ قوله صلى اللَّه عليه وسلم في حديث الباب‏:‏ ‏(‏صدقة تصدق اللَّه بها عليكم‏)‏ فإن الظاهر من قوله صدقة أن القصر رخصة فقط‏.‏ وأجيب بأن الأمر بقبولها يدل على أنه لا محيص عنها وهو المطلوب‏.‏

الحجة الثالثة‏:‏ ما في صحيح مسلم وغيره أن الصحابة كانوا يسافرون مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فمنهم القاصر ومنهم المتم ومنهم الصائم ومنهم المفطر لا يعيب بعضهم على بعض كذا قال النواوي ‏[‏النووي‏]‏ في شرح مسلم ولم نجد في صحيح مسلم قوله ‏(‏فمنهم القاصر ومنهم المتم‏)‏ وليس فيه إلا أحاديث الصوم والإفطار وإذا ثبت ذلك فليس فيه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم اطلع على ذلك وقررهم عليه وقد نادت أقواله وأفعاله بخلاف ذلك وقد تقرر أن إجماع الصحابة في عصره صلى اللَّه عليه وآله وسلم ليس بحجة والخلاف بينهم في ذلك مشهور بعد موته وقد أنكر جماعة منهم علي وعثمان لما أتم بمنى وتأولوا له تأويلات‏.‏

قال ابن القيم‏:‏ أحسنها أنه كان قد تأهل بمنى والمسافر إذا أقام في موضع وتزوج فيه أو كان له به زوجة أتم وقد روى أحمد عن عثمان أنه قال‏:‏ ‏(‏أيها الناس لما قدمت تأهلت بها وإني سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول‏:‏ إذا تأهل رجل ببلد فليصل به صلاة مقيم‏)‏ ورواه أيضًا عبد اللَّه بن الزبير الحميدي في مسنده أيضًا‏.‏ وقد أعله البيهقي بانقطاعه وتضعيفه عكرمة بن إبراهيم وسيأتي الكلام عليه‏.‏

الحجة الرابعة‏:‏ حديث عائشة الآتي وسيأتي الجواب عنه وهذا النزاع في وجوب القصر وعدمه وقد لاح من مجموع ما ذكرنا رجحان القول بالوجوب‏.‏ وأما دعوى أن التمام أفضل فمدفوعة بملازمته صلى اللَّه عليه وسلم للقصر في جميع أسفاره وعدم صدور التمام عنه كما تقدم ويبعد أن يلازم صلى اللَّه عليه وسلم طول عمره المفضول ويدع الأفضل‏.‏

3 - وعن عائشة قالت‏:‏ ‏(‏خرجت مع النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم في عمرة في رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتممت فقلت‏:‏ بأبي وأمي أفطرت وصمت وقصرت وأتممت فقال‏:‏ أحسنت يا عائشة‏)‏‏.‏

رواه الدارقطني وقال‏:‏ هذا إسناد حسن‏.‏

4 - وعن عائشة‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم‏)‏‏.‏

رواه الدارقطني وقال‏:‏ إسناد صحيح‏.‏

الحديث الأول أخرجه أيضًا النسائي والبيهقي بزيادة‏:‏ ‏(‏أن عائشة اعتمرت مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت‏:‏ بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه أتممت وقصرت‏)‏ الحديث‏.‏ وفي إسناده العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد النخعي عنها والعلاء بن زهير قال ابن حبان‏:‏ كان يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات فبطل الاحتجاج به فيما لم يوافق الأثبات وقال ابن معين‏:‏ ثقة‏.‏ وقد اختلف في سماع عبد الرحمن منها فقال الدارقطني‏:‏ أدرك عائشة ودخل عليها وهو مراهق‏.‏ قال الحافظ‏:‏ وهو كما قال ففي تاريخ البخاري وغيره ما يشهد لذلك‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ أدخل عليها وهو صغير ولم يسمع منها‏.‏ وادعى ابن أبي شيبة والطحاوي ثبوت سماعه منها وفي رواية الدارقطني عن عبد الرحمن عن أبيه عن عائشة‏.‏ قال أبو بكر النيسابوري‏:‏ من قال فيه عن عائشة فقد أخطأ‏.‏

واختلف قول الدارقطني فيه فقال في السنن‏:‏ إسناده حسن وقال في العلل‏:‏ المرسل أشبه‏.‏ قال في البدر المنير‏:‏ إن في متن هذا الحديث نكارة وهو كون عائشة خرجت معه في عمرة رمضان والمشهور أنه صلى اللَّه عليه وسلم لم يعتمر إلا أربع عمر ليس منهن شيء في رمضان بل كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته فكان إحرامها في ذي القعدة وفعلها في ذي الحجة‏.‏

قال‏:‏ هذا المعروف في الصحيحين وغيرهما قال‏:‏ وتمحل بعض شيوخنا الحفاظ في الجواب عن هذا الإشكال فقال‏:‏ لعل عائشة ممن خرج مع النبي صلى اللَّه عليه وسلم في سفره عام الفتح وكان سفره ذلك في رمضان ولم يرجع من سفره ذلك حتى اعتمر عمرة الجعرانة فأشارت بالقصر والإتمام والفطر والصيام والعمرة إلى ما كان في تلك السفرة‏.‏ قال‏:‏ قال شيخنا وقد روي من حديث ابن عباس أنه صلى اللَّه عليه وسلم اعتمر في رمضان ثم رأيت بعد ذلك القاضي عياضًا أجاب بهذا الجواب فقال‏:‏ لعل هذه عملها في شوال وكان ابتداء خروجها في رمضان‏.‏

وظاهر كلام أبي حاتم ابن حبان أنه صلى اللَّه عليه وسلم اعتمر في رمضان فإنه قال في صحيحه‏:‏ اعتمر صلى اللَّه عليه وسلم أربع عمر الأولى عمرة القضاء سنة القابل من عام الحديبية وكان ذلك في رمضان ثم الثانية حيث فتح مكة وكان فتحها في رمضان ثم خرج منها قبل هوازن وكان من أمره ما كان فلما رجع وبلغ الجعرانة قسم الغنائم بها واعتمر منها إلى مكة وذلك في شوال واعتمر الرابعة في حجته وذلك في ذي الحجة سنة عشر من الهجرة‏.‏ واعترض عليه الحافظ أبو عبد اللَّه محمد بن عبد الواحد المقدسي في كلام له على هذا الحديث وقال‏:‏ وهم في هذا في غير موضع وذكر أحاديث في الرد عليه‏.‏

وقال ابن حزم‏:‏ هذا حديث لا خير فيه وطعن فيه ورد عليه ابن النحوي‏.‏ قال في الهدى بعد ذكره لهذا الحديث‏:‏ وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول هذا حديث كذب على عائشة ولم تكن عائشة لتصلي بخلاف صلاة النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وسائر الصحابة وهي تشاهدهم يقصرون ثم تتم هي وحدها بلا موجب كيف وهي القائلة فرضت الصلاة ركعتين فزيدت في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر فكيف يظن بها أنها تزيد على فرض اللَّه وتخالف رسول اللَّه وأصحابه‏.‏

وقال الزهري لهشام لما حدثه عن أبيه عنها بذلك‏:‏ فما شأنها كانت تتم الصلاة قال‏:‏ تأولت كما تأول عثمان فإذا كان النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قد حسن فعلها فأقرها عليه فما للتأويل حينئذ وجه ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير وقد أخبر ابن عمر‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ولا أبو بكر ولا عمر‏)‏ أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم وهي تراهم يقصرون وأما بعد موته فإنها أتمت كما أتم عثمان وكلاهما تأول تأويلًا والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم مع مخالفة غيره له اهـ‏.‏

والحديث الثاني صحح إسناده الدارقطني كما ذكره المصنف قال في التلخيص‏:‏ وقد استنكره أحمد وصحته بعيدة فإن عائشة كانت تتم‏.‏ وذكر عروة أنها تأولت ما تأول عثمان كما في الصحيح فلو كان عندها عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم رواية لم يقل عروة عنها أنها تأولت‏.‏ قال في الهدى بعد ذكر هذا الحديث‏:‏ وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول هو كذب على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال‏:‏ وقد روى كان يقصر وتتم الأول بالياء آخر الحروف والثاني بالتاء المثناة من فوق وكذلك يفطر وتصوم قال قال شيخنا وهذا باطل ثم ذكر نحو الكلام السابق من استبعاد مخالفة عائشة لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والصحابة وكذا ضبط الحافظ في التلخيص لفظ تتم وتصوم في هذا الحديث بالمثناة من فوق‏.‏

ـ وقد استدل ـ بحديثي الباب القائلون بأن القصر رخصة وقد تقدم ذكرهم ويجاب عنهم بأن الحديث الثاني لا حجة فيه لهم لما تقدم من أن لفظ تتم وتصوم بالفوقانية لأن فعلها على فرض عدم معارضته لقوله وفعله صلى اللَّه عليه وسلم لا حجة فيه فكيف إذا كان معارضًا للثابت عنه من طريقها وطريق غيرها من الصحابة‏.‏

وأما الحديث الأول فلو كان صحيحًا لكان حجة لقوله صلى اللَّه عليه وسلم في الجواب عنها ـ ـ أحسنت ـ ولكنه لا ينتهض لمعارضة ما في الصحيحين وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة وهذا بعد تسليم أنه حسن كما قال الدارقطني فكيف وقد طعن فيه بتلك المطاعن المتقدمة فإنها بمجردها توجب سقوط الاستدلال به عند عدم المعارض‏.‏

5 - وعن عمر أنه قال‏:‏ ‏(‏صلاة السفر ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام من غير قصر على لسان محمد صلى اللَّه عليه وسلم‏)‏‏.‏

رواه أحمد والنسائي وابن ماجه‏.‏

6 - وعن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أتانا ونحن ضلال فعلمنا فكان فيما علمنا أن اللَّه عز وجل أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر‏)‏‏.‏

رواه النسائي‏.‏

7 - وعن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم‏:‏ إن اللَّه يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

الحديث المروي عن عمر رجاله رجال الصحيح إلا يزيد بن زياد بن أبي الجعد وقد وثقه أحمد وابن معين‏.‏ وقد روي من طريق أخرى بأسانيد رجالها رجال الصحيح‏.‏ وقد قال ابن القيم في الهدى‏:‏ هو ثابت عنه قال‏:‏ وهو الذي سأل النبي صلى اللَّه عليه وسلم ما بالنا نقصر وقد أمنا فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صدقة تصدق اللَّه بها عليكم فاقبلوا صدقته‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ولا تناقض بين حديثيه فإن النبي صلى اللَّه عليه وسلم لما أجابه بأن هذا صدقة اللَّه عليكم ودينه اليسر السمح علم عمر أنه ليس المراد من الآية قصر العدد كما فهمه كثير من الناس قال صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر وعلى هذا فلا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح منفي عنه الجناح فإن شاء المصلي فعله وإن شاء أتمه وقد كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يواظب في أسفاره على ركعتين ركعتين فلم يربع قط إلا شيئًا فعله في بعض صلاة الخوف‏.‏

وحديث ابن عمر الثاني أخرجه أيضًا ابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏كما يحب أن تؤتى عزائمه‏)‏‏.‏

ـ وفي الباب ـ عن أبي هريرة عند ابن عدي‏.‏ وعن عائشة عنده أيضًا والمراد بالرخصة التسهيل والتوسعة في ترك بعض الواجبات أو إباحة بعض المحرمات وهي في لسان أهل الأصول الحكم الثابت على خلاف دليل الوجوب أو الحرمة لعذر وفيه أن اللَّه يحب إتيان ما شرعه من الرخص وفي تشبيه تلك المحبة بكراهته لإتيان المعصية دليل على أن في ترك إتيان الرخصة ترك طاعة كالترك للطاعة الحاصل بإتيان المعصية‏.‏

وحديث ابن عمر الأول من أدلة القائلين بأن القصر واجب لقوله ‏(‏فكان فيما علمنا أن اللَّه عز وجل أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر‏)‏ وقد تقدم الكلام على ذلك‏.‏

 باب الرد على من قال إذا خرج نهارًا لم يقصر إلى الليل

1 - عن أنس قال‏:‏ ‏(‏صليت مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم الظهر بالمدينة أربعًا وصليت معه العصر بذي الحليفة ركعتين‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏

2 - وعن شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي قال‏:‏ ‏(‏سألت أنسًا عن قصر الصلاة فقال‏:‏ كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين‏)‏ شعبة الشاك‏.‏

رواه أحمد ومسلم وأبو داود‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وصليت معه العصر بذي الحليفة‏)‏ هكذا في رواية للبخاري ذكرها الكشميهني وهي ثابتة عند مسلم وعند البخاري أيضًا في كتاب الحج‏.‏ وقد استدل بذلك على إباحة القصر في السفر القصير لأن بين المدينة وذي الحليفة ستة أميال وتعقب بأن ذا الحليفة لم تكن منتهى السفر وإنما خرج إليها حيث كان قاصدًا إلى مكة واتفق نزوله بها وكانت أول صلاة حضرت صلاة العصر فقصرها واستمر يقصر إلى أن رجع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال‏)‏ اختلف في تقدير الميل فقال في الفتح‏:‏ الميل هو من الأرض منتهى مد البصر لأن البصر يميل عنه على وجه الأرض حتى يفنى إدراكه وبذلك جزم الجوهري وقيل أن ينظر إلى الشخص في أرض مستوية فلا يدري أرجل هوام أم امرأة أو ذاهب أو آت‏.‏ قال النووي‏:‏ الميل ستة آلاف ذراع والذراع أربعة وعشرون أصبعًا معترضة معتدلة والأصبع ست شعيرات معترضة معتدلة‏.‏

قال الحافظ‏:‏ وهو الذي قال هو الأشهر‏.‏ ومنهم من عبر عن ذلك باثني عشر ألف قدم بقدم الإنسان‏.‏ وقيل هو أربعة آلاف ذراع‏.‏ وقيل ثلاثة آلاف ذراع نقله صاحب البيان‏.‏ وقيل خمسمائة وصححه ابن عبد البر‏.‏ وقيل ألفا ذراع‏.‏ ومنهم من عبر عن ذلك بألف خطوة للجمل قال‏:‏ ثم أن الذراع الذي ذكر النووي تحريره قد حرره غيره بذراع الحديد المشهور في مصر والحجاز في هذه الأعصار فوجده ينقص عن ذراع الحديد بقدر الثمن‏.‏ فعلى هذا فالميل بذراع الحديد في القول المشهور خمسة آلاف ذراع ومائتان وخمسون ذراعًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أو ثلاثة فراسخ‏)‏ الفرسخ في الأصل السكون ذكره ابن سيده‏.‏ وقيل السعة‏.‏ وقيل الشيء الطويل وذكر الفراء أن الفرسخ فارسي معرب وهو ثلاثة أميال‏.‏

ـ واعلم ـ أنه قد وقع الخلاف الطويل بين علماء الإسلام في مقدار المسافة التي يقصر فيها الصلاة‏.‏ قال في الفتح‏:‏ فحكى ابن المنذر وغيره فيها نحوًا من عشرين قولًا أقل ما قيل في ذلك يوم وليلة وأكثره ما دام غائبًا عن بلده‏.‏ وقيل أقل ما قيل في ذلك الميل كما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن عمر وإلى ذلك ذهب ابن حزم الظاهري واحتج له بإطلاق السفر في كتاب اللَّه تعالى كقوله ‏{‏وإذا ضربتم في الأرض‏}‏ الآية وفي سنة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال‏:‏ فلم يخص اللَّه ولا رسوله ولا المسلمون بأجمعهم سفرًا من سفر ثم احتج على ترك القصر فيما دون الميل بأن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قد خرج إلى البقيع لدفن الموتى وخرج إلى الفضاء للغائط والناس معه فلم يقصر ولا أفطر‏.‏ وذكر في المحلى من أقوال الصحابة والتابعين والأئمة والفقهاء في تقدير مسافة القصر أقوالًا كثيرة لم يحط بها غيره واستدل لها وردَّ تلك الاستدلالات‏.‏

وقد أخذ بظاهر حديث أنس المذكور في الباب الظاهرية كما قال النووي فذهبوا إلى أن أقل مسافة القصر ثلاثة أميال قال في الفتح‏:‏ وهو أصح حديث ورد في ذلك وأصرحه وقد حمله من خالفه على أن المراد المسافة التي يبتدأ منها القصر لا غاية السفر قال‏:‏ ولا يخفى بعد هذا الحمل مع أن البيهقي ذكر في روايته من هذا الوجه أن يحيى بن يزيد راويه عن أنس قال‏:‏ سألت أنسًا عن قصر الصلاة وكنت أخرج إلى الكوفة يعني من البصرة فأصلي ركعتين ركعتين حتى أرجع فقال أنس فذكر الحديث قال‏:‏ فظهر أنه سأله عن جواز القصر في السفر لا عن الموضع الذي يبتدئ القصر منه‏.‏ وذهب الشافعي ومالك وأصحابهما والليث والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث وغيرهم إلى أنه لا يجوز إلا في مسيرة مرحلتين وهما ثمانية وأربعون ميلًا هاشمية كما قال النووي‏.‏

وقال أبو حنيفة والكوفيون لا يقصر في أقل من ثلاث مراحل‏.‏ وروي عن عثمان وابن مسعود وحذيفة‏.‏ وفي البحر عن أبي حنيفة أن مسافة القصر أربعة وعشرون فرسخًا وحكي في البحر أيضًا عن زيد بن علي والنفس الزكية والداعي والمؤيد باللَّه وأبي طالب والثوري والكرخي وإحدى الروايات عن أبي حنيفة أن مسافة القصر ثلاثة أيام بسير الإبل والأقدام‏.‏

وذهب الباقر والصادق وأحمد بن عيسى والقاسم والهادي إلى أن مسافته بريد فصاعدًا وقال أنس‏:‏ وهو مروي عن الأوزاعي أن مسافته يوم وليلة‏.‏

قال في الفتح‏:‏ وقد أورد البخاري ما يدل على أن اختياره أن أقل مسافة القصر يوم وليلة يعني قوله في صحيحه وسمى النبي صلى اللَّه عليه وسلم السفر يومًا وليلة بعد قوله باب في كم يقصر الصلاة‏.‏ وحجج هذه الأقوال مأخوذ بعضها من قصره صلى اللَّه عليه وسلم في أسفاره وبعضها من قوله صلى اللَّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يحل لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم‏)‏ عند الجماعة إلا النسائي‏.‏

وفي رواية للبخاري من حديث ابن عمر عنه صلى اللَّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم‏)‏‏.‏

وفي رواية لأبي داود‏:‏ ‏(‏لا تسافر المرأة بريدًا‏)‏ ولا حجة في جميع ذلك‏.‏

أما قصره صلى اللَّه عليه وسلم في أسفاره فلعدم استلزام فعله لعدم الجواز فيما دون المسافة التي قصر فيها وأما نهي المرأة عن أن تسافر ثلاثة أيام بغير ذي محرم فغاية ما فيه إطلاق اسم السفر على مسيرة ثلاثة أيام وهو غير مناف للقصر فيما دونها وكذلك نهيها عن سفر اليوم بدون محرم والبريد لا ينافي جواز القصر في ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ كما في حديث أنس لأن الحكم على الأقل حكم على الأكثر‏.‏

وأما حديث ابن عباس عند الطبراني أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان‏)‏ فليس مما تقوم به حجة لأن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبير وهو متروك وقد نسبه النووي إلى الكذب‏.‏ وقال الأزدي‏:‏ لا تحل الرواية عنه والراوي عنه إسماعيل بن عياش وهو ضعيف في الحجازيين وعبد الوهاب المذكور حجازي والصحيح أنه موقوف على ابن عباس كما أخرجه عنه الشافعي بإسناد صحيح ومالك في الموطأ إذا تقرر لك هذا فالمتيقن هو ثلاثة فراسخ لأن حديث أنس المذكور في الباب متردد ما بينهما وبين ثلاثة أميال والثلاثة الأميال مندرجة في الثلاثة الفراسخ فيؤخذ بالأكثر احتياطًا ولكنه روى سعيد بن منصور عن أبي سعيد قال‏:‏ ‏(‏كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إذا سافر فرسخًا يقصر الصلاة‏)‏‏.‏

وقد أورد الحافظ هذا في التلخيص ولم يتكلم عليه فإن صح كان الفرسخ هو المتيقن ولا يقصر فيما دونه إلا إذا كان يسمى سفرًا لغة أو شرعًا‏.‏

وقد اختلف أيضًا فيمن قصد سفرًا يقصر في مثله الصلاة على اختلاف الأقوال من أين يقصر‏.‏ فقال ابن المنذر‏:‏ أجمعوا على أن لمريد السفر أن يقصر إذا خرج عن جميع بيوت القرية التي يخرج منها واختلفوا فيما قبل الخروج من البيوت فذهب الجمهور إلى أنه لا بد من مفارقة جميع البيوت وذهب بعض الكوفيين إلى أنه إذا أراد السفر يصلي ركعتين ولو كان في منزله ومنهم من قال إذا ركب قصر إن شاء‏.‏ ورجح ابن المنذر الأول بأنهم اتفقوا على أنه يقصر إذا فارق البيوت واختلفوا فيما قبل ذلك فعليه الإتمام على أصل ما كان عليه حتى يثبت أن له القصر قال‏:‏ ولا أعلم أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قصر في سفر من أسفاره إلا بعد خروجه من المدينة‏.‏

 باب أن من دخل بلدًا فنوى الإقامة فيه أربعًا يقصر

1 - عن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏أنه صلى مع النبي صلى اللَّه عليه وسلم إلى مكة في المسير والمقام بمكة إلى أن رجعوا ركعتين ركعتين‏)‏‏.‏

رواه أبو داود الطيالسي في مسنده‏.‏

2 - وعن يحيى بن أبي إسحاق عن أنس قال‏:‏ ‏(‏خرجنا مع النبي صلى اللَّه عليه وسلم من المدينة إلى مكة فصلى ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة قلت‏:‏ أقمتم بها شيئًا قال‏:‏ أقمنا بها عشرًا‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏ ولمسلم‏:‏ ‏(‏خرجنا من المدينة إلى الحج‏)‏ ثم ذكر مثله‏.‏ وقال أحمد‏:‏ إنما وجه حديث أنس‏:‏ أنه حسب مقام النبي صلى اللَّه عليه وسلم بمكة ومنى وإلا فلا وجه له غير هذا‏.‏ واحتج بحديث جابر‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة فأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الصبح في اليوم الثامن ثم خرج إلى منى وخرج من مكة متوجهًا إلى المدينة بعد أيام التشريق‏)‏ ومعنى ذلك كله في الصحيحين وغيرهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ركعتين ركعتين‏)‏ زاد البيهقي إلا المغرب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أقمنا بها عشرًا‏)‏ هذا لا يعارض حديث ابن عباس وعمران بن حصين الآتيين لأنهما في فتح مكة وهذا في حجة الوداع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال أحمد‏)‏ الخ هذا لا بد منه لما في حديث جابر المذكور في الباب‏.‏ ومثله أيضًا حديث ابن عباس عند البخاري بلفظ‏:‏ ‏(‏قدم النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم وأصحابه لصبح رابعة يلبون بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة‏)‏ الحديث‏.‏

قال في الفتح‏:‏ ولا شك أنه خرج من مكة صبح الرابع عشر فتكون مدة الإقامة بمكة ونواحيها عشرة أيام بلياليها كما قال أنس ويكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام لا سوى لأنه خرج منها في اليوم الثامن فصلى بمنى‏.‏ وقال الطبري‏:‏ أطلق على ذلك الإقامة بمكة لأن هذه المواضع مواضع النسك وهي في حكم التابع بمكة لأنها المقصود بالأصالة لا يتجه سوى ذلك كما قال أحمد‏.‏ وقال النووي في شرح مسلم‏:‏ إن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قدم مكة في اليوم الرابع فأقام بها الخامس والسادس والسابع وخرج منها في الثامن إلى منى وذهب إلى عرفات في التاسع وعاد إلى منى في العاشر فأقام بها الحادي عشر والثاني عشر ونفر في الثالث عشر إلى مكة وخرج منها إلى المدينة في الرابع عشر فمدة إقامته صلى اللَّه عليه وآله وسلم في مكة وحواليها عشرة أيام اهـ‏.‏

وقد أشار المصنف بترجمة الباب إلى الرد على الشافعي حيث قال‏:‏ إن المسافر يصير بنية إقامة أربعة أيام مقيمًا‏.‏ وقد زعم الطحاوي بأن الشافعي لم يسبق إلى ذلك ورد ذلك في الفتح بأن أحمد قد قال بنحو ذلك وهي رواية عن مالك ونسبه في البحر إلى عثمان وسعيد بن المسيب وأبي ثور ومالك واستدل لهم بنهيه صلى اللَّه عليه وسلم للمهاجر عن إقامة فوق ثلاث في مكة فتكون الزيادة عليها إقامة لا قدر الثلاث ورده بأن الثلاث قدر قضاء الحوائج لا لكونها غير إقامة‏.‏

وذهبت القاسمية والناصر والإمامية والحسن بن صالح وهو مروي عن ابن عباس أنه لا يتم الصلاة إلا من نوى إقامة عشر واحتجوا بما روي عن علي عليه السلام أنه قال‏:‏ يتم الذي يقيم عشرًا والذي يقول اليوم أخرج غدًا أخرج يقصر شهرًا‏.‏ قالوا‏:‏ وهو توقيف وردَّ بأنه من مسائل الاجتهاد‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ إنه يتم إذا عزم على إقامة خمسة عشر يومًا واحتج بما روي عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا‏:‏ إذا أقمت ببلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم خمس عسرة ليلة فأكمل الصلاة وردَّ بأنه لا حجة في أقوال الصحابة في المسائل التي للاجتهاد فيها مسرح وهذه منها‏.‏

وروي عن الأوزاعي التحديد باثني عشر يومًا وعن ربيعة يوم وليلة‏.‏ وعن الحسن البصري أن المسافر يصير مقيمًا بدخول البلد‏.‏ وعن عائشة بوضع الرحل‏.‏ قال الإمام يحيى‏:‏ ولا يعرف لهم مستند شرعي وإنما ذلك اجتهاد من أنفسهم والأمر كما قال هذا الإمام والحق أن من حط رحله ببلد ونوى الإقامة بها أيامًا من دون تردد لا يقال له مسافر فيتم الصلاة ولا يقصر إلا لدليل ولا دليل ههنا إلا ما في حديث الباب من إقامته صلى اللَّه عليه وسلم بمكة أربعة أيام يقصر الصلاة والاستدلال به متوقف على ثبوت أنه صلى اللَّه عليه وسلم عزم على إقامة أربعة أيام إلا أن يقال أن تمام أعمال الحج في مكة لا يكون في دون الأربع فكان كل من يحج عازمًا على ذلك فيقتصر على هذا المقدار ويكون الظاهر والأصل في حق من نوى إقامة أكثر من أربعة أيام هو التمام وإلا لزم أن يقصر الصلاة من نوى إقامة سنين متعددة ولا قائل به ولا يرد على هذا قوله صلى اللَّه عليه وسلم في إقامته بمكة في الفتح إنا قوم سفر كما سيأتي لأنه كان إذ ذاك مترددًا ولم يعزم على إقامة مدة معينة‏.‏

 باب من أقام لقضاء حاجة ولم يجمع إقامة

1 - عن جابر قال‏:‏ ‏(‏أقام النبي صلى اللَّه عليه وسلم بتبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود‏.‏

2 - وعن عمران بن حصين قال‏:‏ ‏(‏غزوت مع النبي صلى اللَّه عليه وسلم وشهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين يقول يا أهل البلدة صلوا أربعًا فإنا سفر‏)‏‏.‏

رواه أبو داود‏.‏ وفيه دليل على أنه لم يجمع إقامة‏.‏

3 - وعن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏لما فتح النبي صلى اللَّه عليه وسلم مكة أقام فيها تسع عشرة يصلي ركعتين قال‏:‏ فنحن إذا سافرنا فأقمنا تسع عشرة قصرنا وإن زدنا أتممنا‏)‏‏.‏

رواه أحمد والبخاري وابن ماجه‏.‏ ورواه أبو داود ولكنه قال‏:‏ ‏(‏سبع عشرة‏)‏ وقال‏:‏ قال عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس‏:‏ ‏(‏أقام تسع عشرة‏)‏‏.‏

4 - عن ثمامة بن شراحيل قال‏:‏ ‏(‏خرجت إلى ابن عمر فقلت ما صلاة المسافر فقال‏:‏ ركعتين ركعتين إلا صلاة المغرب ثلاثًا قلت‏:‏ أرأيت إن كنا بذي المجاز قال‏:‏ وما ذي المجاز قلت‏:‏ مكان نجتمع فيه ونبيع فيه ونمكث عشرين ليلة أو خمس عشرة ليلة فقال‏:‏ أيها الرجل كنت بأذربيجان لا أدري قال‏:‏ أربعة أشهر أو شهرين فرأيتهم يصلون ركعتين ركعتين‏)‏‏.‏

رواه أحمد في مسنده‏.‏

أما حديث جابر فأخرجه أيضًا ابن حبان والبيهقي وصححه ابن حزم والنووي وأعله الدارقطني في العلل بالإرسال والانقطاع وأن علي بن المبارك وغيره من الحفاظ رووه عن يحيى ابن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان مرسلًا وأن الأوزاعي رواه عن يحيى عن أنس فقال‏:‏ ‏(‏بضع عشرة‏)‏ وبهذا اللفظ أخرجه البيهقي وهو ضعيف‏.‏

وقد اختلف فيه على الأوزاعي ذكره الدارقطني في العلل وقال‏:‏ الصحيح عن الأوزاعي عن يحيى أن أنسًا كان يفعله‏.‏ قال الحافظ‏:‏ ويحيى لم يسمع من أنس‏.‏ وأما حديث عمران بن حصين فأخرجه أيضًا الترمذي وحسنه والبيهقي وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف‏.‏ قال الحافظ‏:‏ وإنما حسن الترمذي حديثه لشواهده ولم يعتبر الاختلاف في المدة كما عرف من عادة المحدثين من اعتبارهم الاتفاق على الأسانيد دون السياق‏.‏

وأما حديث ابن عباس فأخرجه أيضًا بلفظ‏:‏ ‏(‏سبع عشرة‏)‏ بتقديم السين ابن حبان‏.‏ وأما الأثر المروي عن ابن عمر فذكره الحافظ في التلخيص ولم يتكلم عليه‏.‏ وأخرجه البيهقي بسند قال الحافظ‏:‏ صحيح بلفظ‏:‏ ‏(‏أن ابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة‏)‏ وقد اختلفت الأحاديث في إقامته صلى اللَّه عليه وآله وسلم في مكة عام الفتح فروي ما ذكر المصنف وروي عشرون أخرجه عبد بن حميد في مسنده عن ابن عباس‏.‏ وروي خمسة عشر أخرجه النسائي وأبو داود وابن ماجه والبيهقي عن ابن عباس أيضًا‏.‏ قال البيهقي‏:‏ أصح الروايات في ذلك رواية البخاري وهي رواية تسع عشرة بتقديم التاء وجمع إمام الحرمين والبيهقي بين الروايات باحتمال أن يكون في بعضها لم يعد يومي الدخول والخروج وهي رواية سبعة عشر بتقديم السين وعدها في بعضها وهي رواية تسع عشرة بتقديم التاء وعد يوم الدخول ولم يعد يوم الخروج وهي رواية ثمانية عشر‏.‏ قال الحافظ‏:‏ وهو جمع متين وتبقى رواية خمسة عشر شاذة لمخالفتها ورواية عشرين وهي صحيحة الإسناد إلا أنها شاذة أيضًا اهـ‏.‏

وقد ضعف النووي في الخلاصة رواية خمسة عشر‏.‏ قال في الفتح‏:‏ وليس بجيد لأن رواتها ثقات ولم يفرد بها ابن إسحاق فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك عن عبد اللَّه كذلك‏.‏

وإذا ثبت أنها صحيحة فليحمل على أن الراوي ظن أن الأصل سبع عشرة فحذف منها يومي الدخول والخروج فذكر أنها خمسة عشر واقتضى ذلك أن رواية تسع عشرة أرجح الروايات وبهذا أخذ إسحاق بن راهويه ويرجحها أيضًا أنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة‏.‏ وأخذ الثوري وأهل الكوفة برواية خمس عشرة لكونها أقل ما ورد فيحمل ما زاد على أنه وقع اتفاقًا‏.‏ وأخذ الشافعي بحديث عمران بن حصين‏.‏

ـ وقد اختلف العلماء ـ في تقدير المدة التي يقصر فيها المسافر إذا أقام ببلدة وكان مترددًا غير عازم على إقامة أيام معلومة فذهب الهادي والقاسم والإمامية إلى أن من لم يعزم إقامة مدة معلومة كمنتظر الفتح يقصر إلى شهر ويتم بعده واستدلوا بقول علي عليه السلام المتقدم في شرح الباب الأول وقد تقدم الجواب عليه‏.‏

وذهب أبو حنيفة وأصحابه والإمام يحيى وهو مروي عن الشافعي إلى أنه يقصر أبدًا لأن الأصل السفر ولما ذكره المصنف عن ابن عمر قالوا وما روي من قصره صلى اللَّه عليه وسلم في مكة وتبوك دليل لهم لا عليهم لأنه صلى اللَّه عليه وسلم قصر مدة إقامته ولا دليل على التمام فيما بعد تلك المدة‏.‏ ويؤيد ذلك ما أخرجه البيهقي عن ابن عباس‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أقام بحنين أربعين يومًا يقصر الصلاة‏)‏ ولكنه قال‏:‏ تفرد به الحسن بن عمارة وهو غير محتج به‏.‏ وروي عن ابن عمر وأنس أنه يتم بعد أربعة أيام‏.‏

ـ والحق ـ أن الأصل في المقيم الإتمام لأن القصر لم يشرعه الشارع إلا للمسافر والمقيم غير مسافر فلولا ما ثبت عنه صلى اللَّه عليه وسلم من قصره بمكة وتبوك مع الإقامة لكان المتعين هو الإتمام فلا ينتقل عن ذلك الأصل إلا بدليل وقد دل الدليل على القصر مع التردد إلى عشرين يومًا كما في حديث جابر ولم يصح أنه صلى اللَّه عليه وسلم قصر في الإقامة أكثر من ذلك فيقتصر على هذا المقدار ولا شك أن قصره صلى اللَّه عليه وآله وسلم في تلك المدة لا ينفي القصر فيما زاد عليها ولكن ملاحظة الأصل المذكور هي القاضية بذلك‏.‏

ـ فإن قيل ـ المعتبر صدق اسم المسافر على المقيم المتردد وقد قال صلى اللَّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنا قوم سفر‏)‏ فصدق عليه هذا الاسم ومن صدق عليه هذا الاسم قصر لأن المعتبر هو السفر لانضباطه لا المشقة لعدم انضباطها فيجاب عنه أولًا بأن في الحديث المقال المتقدم وثانيًا بأنه يعلم بالضرورة أن المقيم المتردد غير مسافر حال الإقامة فإطلاق اسم المسافر عليه مجاز باعتبار ما كان عليه أو ما سيكون عليه‏.‏

 باب من اجتاز في بلد فتزوج فيه أو له فيه زوجة فليتم

1 - عن عثمان بن عفان‏:‏ ‏(‏أنه صلى بمنى أربع ركعات فأنكر الناس عليه فقال‏:‏ يا أيها الناس إني تأهلت بمكة منذ قدمت وإني سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يقول‏:‏ من تأهل في بلد فليصل صلاة المقيم‏)‏‏.‏

رواه أحمد‏.‏

الحديث أيضًا أخرجه البيهقي وأعله بالانقطاع وفي إسناده عكرمة بن إبراهيم وهو ضعيف كما قال البيهقي‏.‏

وأخرجه أيضًا عبد اللَّه بن الزبير الحميدي قال في الهدى‏:‏ قال أبو البركات ابن تيمية ويمكن المطالبة بسبب الضعف‏.‏ فإن البخاري ذكر عكرمة المذكور في تاريخه ولم يطعن فيه وعادته ذكر الجرح والمجروحين‏.‏

قال في الفتح‏:‏ هذا حديث لا يصح لأنه منقطع وفي رواته من لا يحتج به ويرده قول عروة أن عائشة تأولت ما تأول عثمان ولا جائز أن تؤل عائشة أصلًا فدل على وهي ذلك الخبر قال‏:‏ ثم ظهر أنه يمكن أن يكون مراد عروة بقوله تأولت كما تأول عثمان التشبيه بعثمان في الإتمام بتأويل لا اتحاد تأويلهما ويقويه أن الأسباب اختلفت في تأويل عثمان فتكاثرت بخلاف تأويل عائشة‏.‏ وقد أخرج ابن جرير في تفسير سورة النساء أن عائشة كانت تصلي في السفر أربعًا فإذا احتجوا عليها تقول إن النبي صلى اللَّه عليه وسلم كان في حروب وكان يخاف فهل تخافون أنتم‏.‏

وقيل في تأويل عائشة أنها إنما أتمت في سفرها إلى البصرة لقتال علي عليه السلام والقصر عندها إنما يكون في سفر طاعة‏.‏

قال في الفتح‏:‏ وهذان القولان باطلان لا سيما الثاني قال‏:‏ والمنقول في سبب إتمام عثمان أنه كان يرى القصر مختصًا بمن كان شاخصًا سائرًا‏.‏ وأما من أقام في مكان في أثناء سفره فله حكم المقيم فيتم والحجة فيه ما رواه أحمد بإسناد حسن عن عباد بن عبد اللَّه بن الزبير قال‏:‏ لما قدم علينا معاوية حاجًا صلى بنا الظهر ركعتين بمكة ثم انصرف إلى دار الندوة فدخل عليه مروان وعمرو بن عثمان فقالا له‏:‏ لقد عبت أمر ابن عمك لأنه كان قد أتم الصلاة قال‏:‏ وكان عثمان حيث أتم الصلاة إذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء أربعًا أربعًا ثم إذا خرج إلى منى وعرفة قصر الصلاة فإذا فرغ الحج وأقام بمنى أتم الصلاة‏.‏ وقال ابن بطال‏:‏ الوجه الصحيح في ذلك أن عثمان وعائشة كانا يريان أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم إنما قصر لأنه أخذ بالأيسر من ذلك على أمته وآخذًا أنفسهما بالشدة وهذا رجحه جماعة من آخرهم القرطبي‏.‏ وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عثمان إنما أتم الصلاة لأنه نوى الإقامة بعد الحج وأجيب بأنه مرسل وفيه أيضًا نظر لأن الإقامة بمكة على المهاجرين حرام‏.‏

وقد صح عن عثمان أنه كان لا يودع البيت إلا على ظهر راحلته ويسرع الخروج خشية أن يرجع في هجرته وثبت أنه قال له المغيرة لما حاصروه‏:‏ اركب رواحلك إلى مكة فقال‏:‏ لن أفارق دار هجرتي‏.‏

وأيضًا قد روى أيوب عن الزهري ما يخالفه فروى الطحاوي وغيره من هذا الوجه عن الزهري أنه قال‏:‏ إنما صلى عثمان بمنى أربعًا لأن الأعراب كانوا كثروا في ذلك العام فأحب أن يعلمهم أن الصلاة أربع‏.‏

وروى البيهقي من طريق عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن عثمان أنه أتم بمنى ثم خطب فقال‏:‏ إن القصر سنة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وصاحبيه ولكنه حدث طغام يعني بفتح الطاء والمعجمة فخفت أن يستنوا‏.‏

وعن ابن جريج أن أعرابيًا ناداه في منى‏:‏ يا أمير المؤمنين ما زلت أصليها منذ رأيتك عام أول ركعتين‏.‏ وقد روي في تأول عثمان غير ذلك والذي ذكرنا هنا أحسن ما قيل‏.‏

وأما تأول عائشة فأحسن ما قيل فيه ما أخرجه البيهقي بإسناد صحيح من طريق هشام بن عروة عن أبيه أنها كانت تصلي في السفر أربعًا فقلت لها‏:‏ لو صليت ركعتين فقالت‏:‏ يا ابن أختي إنه لا يشق علي‏.‏

وهو دال على أنها تأولت أن القصر رخصة وأن الإتمام لمن لا يشق عليه أفضل وقد تقدم بسط الكلام في ذلك‏.‏

 أبواب الجمع بين الصلاتين

 باب جوازه في السفر في وقت أحدهما

1 - عن أنس قال‏:‏ ‏(‏كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم إذا رحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل يجمع بينهما فإن زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب‏)‏‏.‏

متفق عليه‏.‏ وفي رواية لمسلم‏:‏ ‏(‏كان إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر يؤخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر ثم يجمع بينهما‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تزيغ‏)‏ بزاي وغين معجمة أي تميل‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يجمع بينهما‏)‏ أي في وقت العصر وفي الحديث دليل على جواز جمع التأخير في السفر سواء كان السير مجدًا أم لا وقد وقع الخلاف في الجمع في السفر فذهب إلى جوازه مطلقًا تقديمًا وتأخيرًا كثير من الصحابة والتابعين ومن الفقهاء الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأشهب واستدلوا بالأحاديث الآتية في هذا الباب ويأتي الكلام عليها‏.‏ وقال قوم لا يجوز الجمع مطلقًا إلا بعرفة ومزدلفة وهو قول الحسن والنخعي وأبي حنيفة وصاحبيه وأجابوا عما روي من الأخبار في ذلك بأن الذي وقع جمع صوري وهو أنه أخر المغرب مثلًا إلى آخر وقتها وعجل العشاء في أول وقتها كذا في الفتح قال‏:‏ وتعقبه الخطابي وغيره بأن الجمع رخصة فلو كان على ما ذكروه لكان أعظم ضيقًا من الإتيان بكل صلاة في وقتها لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصة فضلًا عن العامة وسيأتي الجواب عن هذا التعقب في الباب الذي بعد هذا الباب‏.‏

قال في الفتح مؤيدًا لما قاله الخطابي‏:‏ وأيضًا فإن الأخبار جاءت صريحة بالجمع في وقت إحدى الصلاتين وذلك هو المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع قال‏:‏ ومما يرد على الجمع الصوري جمع التقديم وسيأتي‏.‏

وقال الليث وهو المشهور عن مالك‏:‏ إن الجمع يختص بمن جد به السير‏.‏ وقال ابن حبيب‏:‏ يختص بالسائر ويستدل لهما بما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏كان النبي صلى اللَّه عليه وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جد به السير‏)‏ ولما قاله ابن حبيب بما في البخاري أيضًا عن ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم يجمع بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير ويجمع بين المغرب والعشاء‏)‏ فيقيد أنس المذكور في الباب بما إذا كان المسافر سائرًا سيرًا مجدًا كما في هذين الحديثين‏.‏

وقال الأوزاعي‏:‏ إن الجمع في السفر يختص بمن له عذر‏.‏ وقال أحمد واختاره ابن حزم وهو مروي عن مالك‏:‏ إنه يجوز جمع التأخير دون التقديم واستدلوا بحديث أنس المذكور في الباب وأجابوا عن الأحاديث القاضية بجواز جمع التقديم بما سيأتي‏.‏

2 - وعن معاذ رضي اللَّه عنه‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر يصليهما جميعًا وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا ثم سار وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب‏)‏‏.‏

رواه أحمد وأبو داود والترمذي‏.‏

3 - وعن ابن عباس رضي اللَّه عنه‏:‏ ‏(‏عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم كان في السفر إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب فإذا لم تزغ له في منزله سار حتى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر وإذا حانت له المغرب في منزله جمع بينها وبين العشاء وإذا لم تحن في منزله ركب حتى إذا كانت العشاء نزل فجمع بينهما‏)‏‏.‏

رواه أحمد ورواه الشافعي في مسنده بنحوه وقال فيه‏:‏ ‏(‏وإذا سار قبل أن تزول الشمس أخر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر‏.‏

4 - وعن ابن عمر‏:‏ ‏(‏أنه استغيث على بعض أهله فجد به السير فأخر المغرب حتى غاب الشفق ثم نزل فجمع بينهما ثم أخبرهم أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان يفعل ذلك إذا جد به السير‏)‏‏.‏

رواه الترمذي بهذا اللفظ وصححه ومعناه لسائر الجماعة إلا ابن ماجه‏.‏

أما حديث معاذ فأخرجه أيضًا ابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حسن غريب تفرد به قتيبة‏.‏ والمعروف عند أهل العلم حديث معاذ من حديث أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ وليس فيه جمع التقديم يعني الذي أخرجه مسلم‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ هذا حديث منكر وليس في جمع التقديم حديث قائم‏.‏ وقال أبو سعيد ابن يونس‏:‏ لم يحدث بهذا الحديث إلا قتيبة ويقال إنه غلط فيه وأعله الحاكم وطول وابن حزم وقال‏:‏ إنه معنعن بيزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل ولا يعرف له عنه رواية‏.‏ وقال أيضًا‏:‏ أن أبا الطفيل مقدوح لأنه كان حامل راية المختار وهو يؤمن بالرجعة وأجيب عن ذلك بأنه إنما خرج مع المختار على قاتلي الحسين وبأنه لم يعلم من المختار الإيمان بالرجعة‏.‏

قال في البدر المنير‏:‏ إن للحفاظ في هذا الحديث خمسة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ إنه حسن غريب قاله الترمذي‏.‏ ثانيها‏:‏ إنه محفوظ صحيح قاله ابن حبان‏.‏ ثالثها‏:‏ إنه منكر قاله أبو داود‏.‏ رابعها‏:‏ إنه منقطع قاله ابن حزم‏.‏ خامسها‏:‏ إنه موضوع قاله الحاكم‏.‏ وأصل حديث أبي الطفيل في صحيح مسلم وأبو الطفيل عدل ثقة مأمون اهـ‏.‏

وأما حديث ابن عباس فأخرجه أيضًا البيهقي والدارقطني وروي أن الترمذي حسنه‏.‏ قال الحافظ‏:‏ وكأنه باعتبار المتابعة وغفل ابن العربي فصحح إسناده وليس بصحيح لأنه من طريق حسين بن عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن عباس بن عبد المطلب قال فيه أبو حاتم‏:‏ ضعيف ولا يحتج بحديثه‏.‏ وقال ابن معين‏:‏ ضعيف‏.‏ وقال أحمد‏:‏ له أشياء منكرة‏.‏ وقال النسائي‏:‏ متروك الحديث‏.‏ وقال السعدي‏:‏ لا يحتج بحديثه‏.‏ وقال ابن المديني‏:‏ تركت حديثه‏.‏ وقال ابن حبان‏:‏ يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل ولكن له طريق أخرى أخرجها يحيى بن عبد الحميد الحماني عن أبي خالد الأحمر عن الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس‏.‏

وله أيضًا طريق أخرى رواها إسماعيل القاضي في الأحكام عن إسماعيل ابن أبي أويس عن أخيه عن سليمان بن بلال عن هشام عن عروة عن كريب عن ابن عباس بنحوه‏.‏

ـ وفي الباب ـ عن علي عليه السلام عند الدارقطني وفي إسناده كما قال الحافظ من لا يعرف‏.‏ وفيه أيضًا المنذر القابوسي وهو ضعيف‏.‏ وأخرج عبد اللَّه بن أحمد في زيادات المسند بإسناد آخر عن علي عليه السلام أنه كان يفعل ذلك‏.‏

وفي الباب أيضًا عن أنس عند الإسماعيلي والبيهقي وقال‏:‏ إسناده صحيح بلفظ‏:‏ ‏(‏كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إذا كان في سفر وزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا‏)‏ وله طريق أخرى عند الحاكم في الأربعين وهو في الصحيحين من هذا الوجه وليس فيه والعصر‏.‏

قال في التلخيص‏:‏ وهي زيادة غريبة صحيحة الإسناد وقد صححه المنذري من هذا الوجه والعلائي وتعجب من الحاكم كونه لم يورده في المستدرك‏.‏ وله طريق آخرى رواها الطبراني في الأوسط وفي الباب أيضًا عن جابر عند مسلم من حديث طويل وفيه‏:‏ ‏(‏ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئًا وكان ذلك بعد الزوال‏)‏‏.‏

وقد استدل القائلون بجواز جمع التقديم والتأخير في السفر بهذه الأحاديث وقد تقدم ذكرهم وأجاب المانعون من جمع التقديم عنها بما تقدم من الكلام وقد عرفت أن بعضها صحيح وبعضها حسن وذلك يرد قول أبي داود‏:‏ ليس في جمع التقديم حديث قائم‏.‏

وأما حديث ابن عمر فقد استدل به من قال باختصاص رخصة الجمع في السفر بمن كان سائرًا لا نازلًا كما تقدم وأجيب عن ذلك بما وقع من التصريح في حديث معاذ بن جبل في الموطأ بلفظ‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أخر الصلاة في غزوة تبوك خرج فصلى الظهر والعصر جميعًا ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعًا‏)‏ قال الشافعي في الأم‏:‏ قوله ‏(‏ثم دخل ثم خرج‏)‏ لا يكون إلا وهو نازل فللمسافر أن يجمع نازلًا ومسافرًا‏.‏

وقال ابن عبد البر‏:‏ هذا أوضح دليل في الرد على من قال لا يجمع إلا من جد به السير وهو قاطع للالتباس‏.‏

وحكى القاضي عياض أن بعضهم أوَّل قوله ثم دخل أي في الطريق مسافرًا ثم خرج أي عن الطريق للصلاة ثم استبعده‏.‏

قال الحافظ‏:‏ ولا شك في بعده وكأنه صلى اللَّه عليه وسلم فعل ذلك لبيان الجواز وكان أكثر عادته ما دل عليه حديث أنس يعني المذكور في أول الباب ومن ثمة قالت الشافعية‏:‏ ترك الجمع أفضل‏.‏

وعن مالك رواية أنه مكروه وهذه الأحاديث تخصص أحاديث الأوقات التي بينها جبريل وبينها النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم للأعرابي حيث قال في آخرها‏:‏ ‏(‏الوقت ما بين هذين الوقتين‏)‏‏.‏